الوفيات تكشف حجم الفوضى.. ارتفاع عدد ضحايا الكحول المغشوش في صنعاء
الوفيات تكشف حجم الفوضى.. ارتفاع عدد ضحايا الكحول المغشوش في صنعاء
تعيش صنعاء وقع صدمة جديدة مع ارتفاع عدد ضحايا الكحول المغشوش إلى اثني عشر شخصاً، في حادثة مأساوية تكشف عمق الفوضى الصحية والاقتصادية التي تضرب المدينة منذ سنوات، فبينما تتداول الأسر أخبار أحبائها بقلق حارق، ويقف الأطباء أمام حالات تتدهور مع مرور الوقت، تبرز الحقيقة الأكثر إيلاماً وهي أن الكارثة ليست مفاجئة، بل نتيجة مسار طويل من الانهيار والغياب الرقابي في اليمن وانتشار السوق السوداء التي تحكمها الحاجة والفقر والاستغلال.
وأكدت مصادر أمنية بحسب ما أوردته “شبكة بوابتي”، اليوم الأربعاء، أن الحالات الأخيرة سجلت في منطقة الحصبة شمال العاصمة، وهي واحدة من المناطق ذات الكثافة السكانية العالية، ما أثار مخاوف من احتمال انتشار مشروبات قاتلة في أوساط واسعة، خصوصاً أن عدداً من المصابين لا يزالون يرقدون في غرف الإنعاش بحالة حرجة.
وتشير التحقيقات إلى أن الضحايا استهلكوا مشروبات ملوثة بكميات كبيرة من مادة الميثانول، وهي مادة كحولية تستخدم عادة في أغراض التعقيم والصناعة، لكنها تتحول إلى سم قاتل عند دخولها جسم الإنسان.
بداية القصة
روايات شهود وأهالٍ من المنطقة تفيد بأن عدداً من الشباب تناولوا مشروبات حصلوا عليها من بائعين مجهولين ينشطون في ساعات الليل، وبعد ساعات فقط بدأت تظهر الأعراض الأولى التي وصفها المقربون بأنها صداع حاد، إحساس بالدوار، وتشوش شبه كامل في الرؤية، سرعان ما تحولت الحالات إلى فقدان وعي ثم توقف في التنفس قبل وصول بعضهم إلى المستشفى. أما الآخرون فاستقبلهم الأطباء في حالة متأخرة جعلت فرص إنقاذهم ضئيلة جداً.
الأطباء الذين باشروا الحالات تحدثوا عن علامات تسمم حاد بالميثانول الذي يتسبب في تدمير الجهاز العصبي والبصري، ويؤدي في بعض الأحيان إلى العمى الدائم لمن ينجو من الموت.
وأكد أطباء أن الساعات الأولى بعد التعرض للميثانول تشكل الفارق بين الحياة والموت، وأن عدم توفر العلاج السريع يزيد احتمال الوفاة بشكل كبير، وهو ما حدث بالفعل في الحصبة حيث وصل معظم المصابين في وقت متأخر جداً.
سوق سوداء تتوسع
انتشار الكحول المغشوش ليس جديداً في صنعاء، ففي ظل الظروف الاقتصادية المتدهورة، وارتفاع معدلات البطالة، ظهر خلال السنوات الماضية عدد متزايد من الورش الصغيرة التي تصنع مشروبات كحولية بطرق بدائية دون أي التزام بمعايير السلامة، وتباع هذه المواد في الأحياء الفقيرة أو عبر شبكات توزيع سرية تستغل غياب الرقابة الحكومية وانشغال الأجهزة الأمنية بأولويات أخرى.
وأشارت مصادر محلية إلى أن هذه المشروبات لا تخضع لأي اختبار جودة، وأن من يقف وراء تصنيعها غالباً ما يستخدم مواد رخيصة مثل الميثانول لإعطاء تأثير يشبه الكحول الإيثيلي، دون إدراك أو اكتراث بخطورة ما يفعله، وفي حالات كثيرة يتم خلط مواد تنظيف أو مذيبات صناعية للحصول على تركيبة تبدو مشابهة لما يطلبه المستهلكون، لكنها في الحقيقة خليط قاتل.
ورغم انتشار التحذيرات غير الرسمية، لا يزال كثيرون يقعون ضحية لهذه المواد نتيجة الفقر أو غياب البدائل أو الرغبة في الهروب من الضغوط اليومية. ولهذا تبدو الكارثة الأخيرة حلقة جديدة في سلسلة تتكرر بين حين وآخر، وقد شهدت مدن يمنية أخرى حوادث مشابهة خلال السنوات الماضية انتهت بوفاة عشرات الأشخاص وإصابة آخرين.
غضب وشعور بالعجز
أهالي الضحايا يتحدثون بمرارة عن فقدان أبنائهم، ويطالبون بفتح تحقيق شامل يحدد المسؤولين عن تصنيع وبيع هذه المواد، بعض الأسر اتهمت جهات متورطة بحماية السوق السوداء، في حين أكد آخرون أن الحملة الأمنية التي بدأت عقب وقوع الحادثة جاءت متأخرة جداً وأن حياة أبنائهم كان يمكن إنقاذها لو وجدت الرقابة من البداية.
ناشطون في صنعاء دعوا إلى حملة توعية واسعة عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل لتحذير المواطنين من شراء أي منتجات مجهولة المصدر، خصوصاً في ظل عدم وجود رقابة رسمية فعالة على الأسواق، وأكد كثير منهم أن هذه المواد تجد طريقها بسهولة بين الشباب بسبب تدهور الوضع الاقتصادي، وغياب أنشطة بديلة، وانتشار الإحباط بين فئات واسعة من المجتمع.
وتواجه المستشفيات في صنعاء وضعاً صعباً بسبب نقص الأدوية والمحاليل الضرورية لعلاج حالات التسمم الحاد، الأطباء تحدثوا عن صعوبات في توفير مضاد الميثانول الذي يعد العلاج الأكثر فعالية، إضافة إلى نقص أجهزة التنفس الاصطناعي والأسرة المجهزة للعناية المركزة، وهذا الواقع جعل عدداً من الحالات يفارقون الحياة قبل أن يحصلوا على العلاج المناسب.
أطباء متخصصون أكدوا أن إنقاذ المصابين يعتمد على سرعة نقلهم إلى المستشفى، وعلى توفر بروتوكولات علاجية متقدمة تعتمد على مضادات التسمم وغسيل الدم، وهي إجراءات غالباً ما تكون محدودة في المستشفيات التي تعاني نقصاً حاداً في التمويل والكوادر.
دعوات لوقف النزيف
منظمات محلية دعت إلى حملة وطنية شاملة لإغلاق معامل تصنيع الكحول المغشوش وضبط المتورطين فيها، إضافة إلى تعزيز الوعي المجتمعي بمخاطر الميثانول، كما طالبت بتوفير برامج علاج تتضمن التوعية الصحية والدعم النفسي للأسر التي فقدت أبناءها.
ويرى خبراء اجتماعيون أن الكارثة تعكس أزمة عميقة تتعلق بانهيار القيم الاجتماعية وغياب البدائل الترفيهية والاقتصادية للشباب، وهو ما يدفع بعضهم إلى اللجوء لسلوكيات خطرة، ومنها استهلاك منتجات غير آمنة أو مجهولة المصدر.
شهد اليمن خلال السنوات العشر الماضية تدهوراً حاداً في مؤسسات الرقابة الصحية والبلدية نتيجة الحرب وتراجع التمويل الحكومي، وأدى ذلك إلى انتشار السوق السوداء للمواد الغذائية والكحولية والدوائية دون رقابة، حوادث التسمم بالميثانول ظهرت لأول مرة بشكل واضح في عام 2016 في مدينة عدن، ثم تكررت في الحديدة وصنعاء وتعز خلال الأعوام اللاحقة.
وتشير تقارير طبية إلى أن الميثانول مسؤول عن عشرات الوفيات سنوياً على مستوى البلاد، وأن معظم الضحايا من الشباب الذين يحصلون على مشروبات رخيصة من مصادر غير رسمية، وتؤكد منظمة الصحة العالمية أن الميثانول يتحول داخل الجسم إلى مركبات شديدة السمية تؤثر في الجهاز العصبي والبصري خلال ساعات قليلة، وأن العلاج المبكر هو العامل الحاسم في إنقاذ المصابين.











